الخميس، 22 سبتمبر 2016

القناعة و الموقف #الإسلام

3069

بسم الله الرحمن الرحيم
القناعة و الموقف :
الأحاديث تتجه جهتين إما أن يتجه الحديث إلى إحداث قناعة في الإنسان، وإما أن يتجه الحديث إلى إحداث موقف في الإنسان، فرق بين القناعة والموقف، العلم الشريف، تفسير القرآن الكريم، تفسير الحديث الشريف، أحكام الفقه، أحكام العبادات، هذه كلها تحدث في الإنسان قناعةً، ولكن حديثاً آخر قد يحدث في الإنسان موقفاً فإذا وازنا بين القناعة والموقف فرق بينهما كبير، قد يقنع الإنسان بشيء ولا يطبقه، هذه القناعة تكون عليه حسرةً يوم القيامة، لو سألت مسلمي الأرض وهو يزيدون عن ألف مليون مجموعة أسئلة، أجابوك جميعاً إجابةً صحيحة، من ربك؟ الله ربي، ما دينك؟ الإسلام ديني، من نبيك؟ محمد نبي، هل تؤمن بالجنة؟ يقول : نعم وكيف لا أؤمن بها؟ هل تؤمن بالنار؟ نعم وكيف لا أؤمن؟ هذه القناعات ما قيمتها إن لم تنقلب إلى حياة، إلى سلوك، إلى تجربة، هذه القناعات تبقى في الذهن ولكن النفس ما تزال شقيةً بالبعد عن الله، لا تزال النفس ضائعةً، لا تزال شاردةً، لا تزال خائفةً، لا تزال منافقةً، لا تزال مستعليةً، لا تزال تحب ذاتها، هذه الأمراض الفتاكة يبدأ مفعولها الخطير بعد الموت، شهوات الدنيا قد تغطي على الإنسان أمراضه النفسية، منغمس في ملذات الدنيا، في جمع مالها، والانغماس في ملذاتها هذا مما يغطي على الإنسان خطورة أمراضه النفسية، ولكن إذا جاء الموت وانقطعت الدنيا انقطاعاً تاماً بدأ تأثير هذه الأمراض الفتاكة في النفس، فذلك لا أعد عملي في الدعوة إلى الله ناجحاً بعدد الحاضرين مهما كثروا .
قد تلقي على دار سينما نظرةً فتشاهد جمعاً غفيراً مجتمعاً في هذه الدار في دخولهم وفي خروجهم، فهل اجتماع عدد غفير من الناس دليل أن هؤلاء الناس جميعاً على حق؟ لا، هناك أسباب تجمعهم، ولكن الذي يدفع الداعية إلى الله إلى مزيد من الحماس، إلى مزيد من البذل والتضحية، إلى مزيد من الحرص والعناية، أن يرى مثلاً ممن يدعون إلى الله في مستوى الدعوة، لا تأخذهم في الله لومة لائم، لا يبيعون دينهم بعرض من الدنيا قليل، لا تلههم أموالهم ولا أولادهم عن ذكر الله، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً، هذا الذي يرفع الناس عند الله عز وجل، فذلك أجد نفسي مدفوعاً من حينٍ إلى آخر في توجيه الحديث إلى إحداث موقفٍ لا قناعة، القناعة متوفرة والحمد لله، القناعات متوافرة ولكن البطولة في الذي تنقلب قناعاته إلى سلوك يعيشه في البيت، ليس يجدي أن تكون قانعاً بالإسلام، ولا قانعاً بالقرآن، ولا قانعاً بأحاديث النبي العدنان، الشيء المجدي أن تكون حياتك، عملك، زواجك، بيتك، بيعك، شراؤك، وظيفتك، طعامك، شرابك، هندامك، كلامك وفق الشرع، إن كنت كذلك سمت نفسك، وإن سمت نفسك كنت قدوةً للناس .
الإسلام موقف أخلاقي :
الإسلام أيها الأخوة الأكارم لا يحيا بالكتب، ولا يحيا بالأشرطة، ولا يحيا بالمؤلفات، ولا يحيا بالمحاضرات، ولا يحيا بالخطب، يحيا فيكم، أي موقف أخلاقي واحد، ورع من أحدكم يعدل ألف محاضرةٍ سمعها أو ألقاها، موقف فيه ورع، ما الذي يلفت نظر الناس؟ ما الذي يشدهم؟ ما الذي يجعلهم يفكرون؟ أن يروا إنساناً يشتهي ما يشتهون، ويحب ما يحبون، ويرغب فيما يرغبون ولكنه عند الشرع الألف والمئة ألف والألف ألف تحت قدمه إذا كان هذا المال فيه شبهة، والمئة والألف والألف ألف تبذل رخيصة في طاعة الله وابتغاء مرضاته، لذلك قد تجد أحدنا فاتراً لضعف عمله، قد تجد أحدنا يستمع ويقول : والله كلام لطيف سمعت مثله كثيراً، ولكن الذي يضفي عليك حرارة الإيمان كثرة التطبيق، فلذلك الذي أرجوه أن يأخذ الإنسان هذا الكلام على محمل الجد، هذا كلام إن صح التعبير مصيري .
العاقل من تاب قبل فوات الأوان :
البطولة نحن الآن في ساعة خلاص، نحن الآن في ساعة خلاص قد تخلص من عذاب الآخرة الآن، قد تتوب، إذا رجع العبد إلى الله تعالى نادى مناد في السموات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله، الصلحة بلمحة، إذا قال العبد : يا رب قد أذنبت، يقول الله عز وجل : وأنا قد غفرت، فإذا قال العبد : يا رب لقد تبت، يقول الله عز وجل : وأنا قد قبلت.
كلمة قل يا رب تبت إليك، لو جئتني بملء السموات والأرض ذنوباً غفرتها لك ولا أبالي، أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما يشاء، إذا ضاقت عليك الدنيا تذكر قوله تعالى:
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)
[سورة الزمر : 53]
هناك أشخاص يقفون عند هذا الحد في هذه الآية اسمعوا التتمة :
(وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ)
[سورة الزمر : 53-56]
إياك أن تصل إلى ساعة ولات حين مناص، هذه أصعب ساعة إذا إنسان صعد به على خشبة المشنقة، يحب أن يبكي يبكي، يحب أن يضحك يضحك، يحب أن يترجى لا يوجد جدوى، يحب ألا يترجى لا يترجى، يحب أن يطلب والدته تأتي ولكن الشنق لابد منه، اطلب ما تشاء لابد من تنفيذ الحكم، هذه الطامة الكبرى .
الكلام المفيد هو الكلام الذي يطبق :
لذلك الإنسان هذا الدرس يقول أحدهم : والله الدرس جميل ولطيف، وآيات قرآنية دقيقة، والمعنى عميق، والحديث رائع، وهذا له علاقة بعملنا، وهذا الحديث من أين جاء به والله ما سمعناه سابقاً؟ أي هذا الاستمتاع بالأحاديث وأنت على حالك، واحد كألف وألف كأف. فالذي أرجوه في هذا اللقاء أن يتوجه هذا الكلام لا إلى إحداث قناعات في الدماغ بل إلى إحداث مواقف عملية، كل واحد له بيت، له زوجة، له أولاد، له بنات، محل تجاري، في عملك التجاري هل يوجد علاقة محرمة؟ هل يوجد علاقة ربوية؟ بيع بسعرين، كتمان عيب؟ هذا في عملك، ادخل إلى بيتك هل يوجد مخالفة؟ ابنتك خروجها هل كما يريد الله سبحانه وتعالى؟ زوجتك هل تصلي؟ هل تأمرها بالصلاة؟ هل هناك وليمةٌ انتهكت فيها حرمات الله عز وجل؟ جمعت فيها الأهل والأصحاب على مائدة واحدة؟ هل تلهو كما يلهو الناس؟ هل تستمتع كما يستمتعون؟ هذه البطولة، امسك دفتراً وسجل التقصيرات، وحاول أن تتلافاها واحدة واحدة بأقرب وقت ممكن حتى يصبح العلم مباركاً، يقول لك أحدهم : تباركنا أستاذ، ما هي البركة؟ البركة التطبيق، إذا إنسان كان معه مرض عضال وهناك دواء شاف، البركة بالدواء ذكره؟ حفظ اسمه؟ وضع الوصفة في مكان وجيه في البيت؟ أم استعمال الدواء؟ بركة الدواء استعماله، بركة القرآن الكريم اتباع سنته، بركة مجلس العلم تنفيذ ما جاء فيه، لا يوجد بركة أخرى، تباركنا لا يوجد بركة أخرى، هذه الكلمة لا معنى لها، الإنسان عليه أن يكون بالمستوى المطلوب، واحد اثنان خمسة عشر إذا كانوا في مستوى الدعوة هؤلاء لهم تأثير عجيب، الأنبياء قلة نبي واحد قلب وجه الأرض بإخلاصه، وصدقه، وجهاده، واستشهاده، وآلاف المصلحين كلام مزخرف منمق، نظريات، شواهد، كتب مؤلفة، ما دام الذي يتكلم ليس في مستوى كلامه فكلامه لا يؤثر .
نحن من حين إلى آخر ندرس السنة المطهرة، ما هذا النبي الكريم الذي لفت القلوب بعد ألف وخمسمئة عام؟ إذا ذكرته يتعطر المجلس، تحس بالشوق إليه لكماله وأنت أيضاً كن على هديه، اقتف أثره، اتبع سنته، اجعل بيتك إسلامياً، اجعل عملك إسلامياً، اجعل محلك إسلامياً، اجعل لباسك إسلامياً، كلامك، نظرتك، الإنسان عندما يطبق يسعد .
بطولة الإنسان ساعة مغادرة الدنيا :
الذي أرجوه في هذا اللقاء غير إحداث قناعات في الفكر إحداث مواقف في النفس، أن تفر إلى الله عز وجل، ففروا إلى الله جميعاً، أن تقوم إليه، أن تشمر، أحياناً الإنسان إذا أقدم على عمل مهم جداً يشمر، أيها الناس شمروا فإن الأمر جد، وتأهبوا فإن السفر قريب، وتزودا فإن السفر بعيد، وخففوا أثقالكم فإن في الطريق عقبة كؤوداً لا يجتازها إلا المخفون، وأخلصوا النية فإن الناقد بصير، ألا يا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة .
هناك رجل سبب هدايته أنه كان يعمل في سلك الشرطة، وكان رئيس مخفر، له صديق من وجهاء الحي كان غنياً ومترفاً فنشأت علاقة بين هذا الصديق وبين هذا الضابط، سهرات، وطعام نفيس، وساعات فيها ضحك وسرور ونزهات وبساتين جميلة، والخير موفور، والمال كثير، وهذا الغني له أربع زوجات كلما كبرت زوجة طلقها وتزوج امرأةً شابة في المباحات، ليس له معاصي وفق الشرع، توفي هذا الرجل بعد أيام جاؤوا إلى مخفر الشرطة يطلبون من هذا الضابط أن يرافقهم إلى المقبرة ليكشف عن الجثة بصحبة طبيب شرعي، لأن هناك إخباراً يفيد بأن هذا الرجل مات تسمماً بالسم وليس موته موتاً طبيعياً، فهذا الضابط نزل إلى القبر بصحبة هذا الطبيب الشرعي فقال : والله شاهدت منظراً بقيت أسبوعاً أو أسبوعين ترتعد فرائصي منه، بطن منفوخ رجل بالشرق ورجل بالغرب، وجه أسود أزرق مملوء بالدود، ولما الطبيب فتح البطن حصل انفجار، هذا الضابط قضى مع هذا الإنسان سهرات ممتعة، وأياماً حلوة، وأكل معه أطيب الطعام، وشهد منزله الفخم، ودخل إلى بستانه الجميل، وعرف خبايا هذا الرجل، هذا هو المصير، قال : والله الذي لا إله إلا هو بقيت أسبوعين أو أكثر لا تشتهي نفسي أن تأكل طعاماً، هذا هو المصير، بعد شهر جاءه أناس إلى المخفر يطلبون منه أن يحل منازعةً تمت في المقبرة، هذه المنازعة عن رجل توفي وأراد أهله أن ينزلوه في قبر مضى على دفن الذي قبله أربعين عاماً فتحوا القبر، قال : والله الذي لا إله إلا هو بأم عيني رأيته رجلاً ممدداً كأنه نائم، ثيابه تشبه قميص اللوكس، جلده هو هو، خده، شعره، ذقنه، ابتسامته، هذا كان يحفظ القرآن الكريم، وكان إمام مسجد بعد أربعين عاماً هو هو، أما الآخر فبعد أسبوع، هذا المنظر المتناقض، هذه المفارقة الحادة، هذه الحالة التي تدعو إلى القرف والمقت، وتلك الحالة التي تدعو إلى الرضا والسرور، هي التي لفتت نظر هذا الإنسان وكانت سبباً في هدايته .
البطولة عند هذه الساعة، ساعة نزول القبر، ساعة مفارقة الدنيا، من الآن اشتغل، من الآن يجب أن يبقى الموت في ذهنك دائماً، طبعاً تتزوج وتشتري بيتاً، تكسب مالاً وتسعد وتسر، ولكن عندك طمأنينة عميقة لو جاء الأجل أنت إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض، واكربتاه يا أبتي، قال : لا كربة على أبيك بعد الآن غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه، أي ساعة اللقاء عند المؤمن أجمل ساعة، كل هذه الحياة من أجل هذه الساعة .
بعض الأشخاص يتخذون جدولاً فيه أسماء الأيام عرضاً، وأما طولاً مثلاً قيام الليل، صلاة الفجر حاضراً، التفكر بالموت، التفكر بآيات الله، ذكر الله، قراءة القرآن، غض البصر، الصدق، تحري الحلال، بر الوالدين عموداً، وكل يوم يحاسب نفسه، يوم السبت هل صليت قيام الليل ؟ هل ذكرت الله عز وجل ؟ هل فكرت بالموت ؟ هل فكرت بآيات الله ؟ هل تلوت بعض آيات الله ؟ هل كان غض بصري جيداً حازماً أم فيه تراخ ؟ إذا كان هذا الشيء تحقق إشارة تحقق، وإلا إشارة ضرب، يمتحن نفسه يلقي نظرة على هذا الجدول كل أسبوع إذا في خطأ يتراجع عنه، يتوب عنه، المؤمن مذنب تواب، كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارق، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، الدنيا ساعة فاجعلها طاعة والنفس طماعة عودها القناعة .
والحمد الله رب العالمين
منقول عن:
الفقه الإسلامي – موضوعات متفرقة – الدرس 23 : القناعات والمواقف والفرق بينهما – الانتقال من
القناعات إلى المواقف . لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1986-04-20 | المصدر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق