الخميس، 13 أكتوبر 2016

الحج #الإسلام

2949

بسم الله الرحمن الرحيم

فرضية الحج وفضله:
أيها الأخوة المؤمنون… يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)
[سورة آل عمران]
أيها الأخوة المؤمنون… هذه الآية الكريمة أصل في فرضية الحج، فالله سبحانه وتعالى يقول
(ولله على الناس حج البيت)
على سبيل الفرض من استطاع إليه سبيلاً، ومن كفر يعني من كان مستطيعاً أن يحج البيت ولم يحج البيت إنكاراً لفرضية هذه العبادة فقد كفر، والدليل قوله تعالى:
(وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)
[سورة آل عمران]
يا أيها الأخوة المؤمنون… روى البيهقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه:
إن عبداً أصححت له جسمه، وأوسعت عليه في المعيشة، فأتت عليه خمسة أعوام لم يفد إلي لمحروم
أيها الأخوة الأكارم… عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ فَقَالَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ حَجٌّ مَبْرُورٌ
الحج المبرور كما فسره العلماء هو الحج الذي لا يخالطه إثم، وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى:
أن يرجع الحاج زاهداً في الدنيا راغباً في الدنيا فذلك هو الحج المبرور
وقال عليه الصلاة والسلام مخاطباً عمرو بن العاص رضي الله عنه
أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ
[صحيح مسلم 173]
يعني من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وقد قال بعض العلماء
الذي يفيض من عرفات ولم يلغب على ظنه أن الله قد غفر له فلا حج له
وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام قَالَ:
الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ وَإِنِ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ
[سنن ابن ماجة 2883]
وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام:
جِهَادُ الْكَبِيرِ والضَّعِيفِ وَالْمَرْأَةِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ
[مسند أحمد 9081]
وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام:
الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ
[صحيح البخاري 1650]
وأما النفقة في الحج فربما ارتفعت وربما كثرت الرسوم وربما ارتفعت أجور النقل وربما ارتفعت نفقات الإقامة، ربما ارتفعت نفقات الطعام والشراب هناك، قد يقول قائل كنا نحج بألفين فاليوم نحتاج إلى خمسين ألفاً، هو في الأساس على المستطيع، ولكن هذا المستطيع الذي ينفق خمسين ألفاً ليحج البيت ليستمع إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام:
النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِسَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ
[مسند أحمد 21922]
أيها الأخوة… هذه بعض الأدلة النقلية من آيات قرآنية ومن أحاديث قدسية ومن أحاديث نبوية تتعلق بفرضية الحج وفضله، فماذا عن فوائده ؟
فوائد الحج:
أجمع العلماء على أن الحج له من بين العبادات مكانة متميزة، فهو عبادة بدنية يحتاج الإنسان إلى سعي وطواف وسفر وانتقال وصلاة وعبادة، هو عبادة بدنية وعبادة مالية يحتاج إلى نفقات كثيرة، عبادة بدنية مالية زمانية ( لها زمان محدود ) مكانية ( لها مكان معين ) روحية، هذه العبادة جمعت بين حركات الجسم وبين إنفاق المال وبين المكان المحدد والزمان المحدد، لكن الأجر الذي أعده الله للحاج لا يعلمه إلى الله، وأقله أنه ليس له جزاء إلا الجنة.
يا أيها الأخوة المؤمنون… قد نعتقد ما نشاء ولكن اعتقادنا وإيماننا يحتاج إلى برهان، ربنا سبحانه وتعالى في أكثر من مئتين آية في كتابه الكريم يقول
(الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)
لأن العمل الصالح تجسيد للإيمان، ولولا العمل الصالح لم يكن هناك برهان على الإيمان، فالإيمان اعتقاد، فالإيمان تصديق، الإيمان إقبال، شيء نفسي داخلي لا يطلع عليه أحد، ولكن العمل الصالح تجسيد للإيمان، من هنا قال عليه الصلاة والسلام
الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل
لولا العمل ما كان هناك برهان على الإيمان.
قال بعض العلماء:
إن الحج برهان عملي يؤكد أن حب الله تعالى في قلب المؤمن يغلب على حبه لماله فعليه أن ينفقه، ويغلب على حبه لأهله فعليه أن يتركهم، ويغلب على حبه لأولاده فيجب عليه أن يغادرهم، ويغلب على حبه لدكانه فعليه أن يغلقه
إن الحج المبرور برهان على أن في قلب المؤمن محبة لله عز وجل تطغى على حبه لماله وأهله وأولاده وعمله وجيرانه، إنه برهان عملي على الإيمان الصحيح، من كان في قلبه إيمان صحيح كان أداء برهاناً على هذا الإيمان الصحيح.
يا أيها الأخوة المؤمنون… النبي عليه الصلاة والسلام قال:
اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم
من كانت حياته ناعمة، من كانت حياته رغيدة هذا إنسان ليس مؤهل أن يجاهد في سبيل الله فيأتي الحج ليكون تدريباً عملياً على الصبر وتحمل المشقة والأناة وحسن تلقي الشدائد بالرضى والقبول، فلذلك قال بعض العلماء:
إن الحج تدريب عملي على الصبر وعلى تحمل المشقة وعلى تجسد الشدائد وعلى مفارقة الأهل والأوطان وعلى حياة الخشونة كي يكون هذا الإنسان مستعد لعمل يرضي الله ورسوله إذا دعاه داعي الجهاد
يا أيها الأخوة المؤمنون… الحج فيه شظف للعيش ربما تضطر أن تنام على الأرض أما في بيتك فتنام على فراش وثير، وتنام في غرفة ذات جو معتدل، ربما تضطر أن تنام على أرض خشنة وتحت خيمة والشمس مسلطة عليها، هذا نموذج فلا بدّ من تحمل بعض الشدائد تنفيذاً لأمر الله سبحانه وتعالى، وليكون الإنسان جاهزاً لكل مشقة تدعوه إليها محبته لله عز وجل.
يا أيها الأخوة المؤمنون… الإنسان يصلي في بلده وقد يخطر على باله مشاكل الدنيا وخواطر عمله وخواطر أهله، ولكن حينما ينزع الحاج من بيته ومن عمله ومن بين أولاده ليتفرغ لعبادة الله عز وجل فهذا مما يقول إيمانه، حينما يغادر بلدته إلى بيت الله الحرام في بيت الله الحرام ليس هناك إلا ذكر الله تعالى والإقبال عليه والتهجد له والصلاة وقراءة القرآن، إن هذه العبادة المكثفة قد تصلي ونفسك مشغولة بأمور الدنيا، قد تصوم ونفسك معلقة بهذا المحل التجاري ولكن الحج ينتزعك من بلدتك وفي بلدت الهموم والمشكلات والمتاعب والرغبات والصراعات، إن من حكم الحج أنه تفرغ لله عز وجل، لذلك كان الحج رحلة إلى الله عز وجل، إني مسافر إلى ربي، إني أحج بيت الله الحرام أي أنك ذاهب إلى الله عز وجل ليهديك سواء السبيل.
يا أيها الأخوة المؤمنون… أصعب شيء على الغافل مغادرة الدنيا، يكون قد جمع الدنيا بالدرهم والدينار وبالدقيقة والثانية حتى صار له بيت مريح وأهل ومركز اجتماعي ودخل وفير فإذا جاء ملك الموت فسيخسر كل هذه الأشياء التي جمعها في عمره المديد في ثانية واحدة، لئلا تكون مغادرة الدنيا كالصاعقة على الإنسان أمر الإنسان بالحج لتكون رحلة الحج رحلة مشابهة للرحلة الأخيرة، الرحلة الأخيرة لا عودة منها، ولكن الرحلة قبل الأخيرة هناك عودة بعدها، فالإنسان حينما يحج البيت ينخلع عن مرتبته الاجتماعية، الحجاج والعمار سواسية لا فرق بين وزير وغفير ولا بين أمير وأجير ولا بين غني وفقير ولا بين قوي وضعيف، الكل حاسر الرأس يرتدي إزاراً ورداءاً ولا يحق له أن يناله شيء من نعيم الدنيا لا طيب ولا تقليم أظافر ولا حلق شعر ولا شيء من هذا القبيل، الإنسان حينما يحج البيت فكأنما حج البيت رحلة تعطيه حجمه الحقيقي، ألم يقل الله عز وجل:
(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)
[سورة الأنعام 94]
فالإنسان إذا ذهب إلى الحج ورأى جموع المسلمين على صعيد واحد في وضع متساوي لا فرق بين واحد وواحد كلهم ضعيف يبتغي وجه الله عز وجل، إن هذا الحاج الذي ترك مكانته الاجتماعية ورتبته المدنية ووظيفته العالية وبيته المريح إن هذا الحاج يعود إلى حجمه الحقيقي، فكأن رحلة الحج تشبه رحلة الموت.
والله سبحانه وتعالى حين أمر الحجاج عن طريق النبي عليه الصلاة والسلام أن يرتدي ثوبين أبيضين رداء وإزار كأن الله عز وجل يريد من الحاج أن مظاهر الدنيا كلها لا قيمة لها عند الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أشكالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، أي شيء يتيح لك أن تتزين به فهو محرم في الحج، ليس لك إلا هذان الثوبان غير المخيطين، ومن ارتدى ثياب الإحرام يعرف نعمة الثياب المخيطة، إنه تحجيم لهذا الإنسان الذي ارتفعت مكانته وكثر ماله ونسي المبتدى والمنهتى، إنه تحجيم لهذا الإنسان الذي ربما أدخلت على قلبه وفرت المال شعوراً بالعلو على بقية الناس.
يا أيها الأخوة المؤمنون… في الحج الناس تزداد تعظيماً لهذا النبي العظيم، كيف ؟ هذه البلاد الحارة التي أرادها أن تكون حارة في واد غير ذي زرع، في الحج سر لا يعرفه إلا من ذاقه، في الحج ازدحام وفي الحج حرارة شديدة وفي أيام الحج خشونة في المأكل والمشرب والملبس ومع ذلك من كان حجه صحيحاً ومخلصاً يتمنى أن يحج في كل عام، ما تفسير ذلك ؟ أن الله سبحانه وتعالى جعل طعم الإقبال عليه ولذة القرب منه وحلاوة التجلي تفوق كل هذه المصاعب، فعلى الرغم من كل هذه المصاعب يتوق من حج البيت حجاً صحيحاً أن يحج في كل عام.
إذاً الله سبحانه وتعالى حينما جعل الكعبة البيت الحرام في بلاد حارة وفي واد غير ذي زرع لا شجر ولا نبات ولا هواء رطب ولا مناظر خضراء إنما هي جبال جرداء وحر شديد ليبين أن أثمن ما في الحياة أن تكون موصولاً بالله عز وجل، فإذا اتصلت بالله في هذه الديار أنستك هذه الصلة كل هذه المتاعب والمشقات.
فليتك تحلو والحيــــاة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العــالمين خراب
كأن الله سبحانه وتعالى يقول لك تعال يا عبدي، تعال إليّ لأريحك من ذنوب أثقلت ظهرك، تعال إليّ لأريحك من حب الدنيا، تعال إليّ لأذيقك طعم قربي، تعال إليّ لأذيقك حلاوة مناجاتي، تعال إليّ لترى أن الإقبال على الله أثمن ما في الدنيا، تقول له لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، هذه التلبية تعني أنك استجبت لأمر الله.
يا أيها الأخوة المؤمنون… مهما تحدثنا عن المشاعر التي تنتاب الحاج في الأرض المقدسة فإنه من ذاق عرف، والعيان غير الخبر، ليس المعاين كالمخبر.
يا أيها الأخوة المؤمنون…من ملك الاستطاعة من زاد وراحلة، من ملك شروط الاستطاعة ومضى عليه خمسة أعوام لم يفد إليّ لمحروم، وفي بعض المذاهب الفقهية يعدّ تأخير الحج للمستطيع مكروهاً كراهة تحريمية لقول الله تعالى:
(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)
[سورة آل عمران 97]
يا أيها الأخوة المؤمنون… الإنسان في الحج كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصعد إلى غار حراء من حين إلى آخر وكأن المؤمن محتاج إلى غار حراء، يعني كأن المؤمن محتاج إلى أن يتفرغ كي يعبد الله عز وجل لا مشكلة ولا قضية أسرية ولا في العمل ولا من الأصحاب ولا متاعب ولا مشقات، الحج تفريغ إجباري لهذا الإنسان الذي شغله ماله، أو شغلته مرتبته، أو شغلته مكانته في بلده عن التفرغ لله عز وجل.
أيها الأخوة المؤمنون… الحديث القدسي الذي يبين أنه
إذا أصححت لعبدي جسمه وأوسعت عليه في المعيشة فأتت عليه خمسة أعوام لم يفد إليّ لمحروم
يعني المسلم حينما يستجيب لهذا الذي اتفق عليه المسلمون أن يحجوا كل خمسة أعوام، هناك من يصر أن يحج كل عام لا شك أنه معذور لأنه ذاق حلاوة القرب، ولكن بعض العلماء ضرب مثلاً لو أن سجادة تتسع لأن يصلي عليها عشرة أشخاص وهناك مئة شخص بينهم عشرون قد صلوا الفريضة والثمانون لم يصلوا الفريضة بعد فنسمح للذين صلوا الفريضة أن يصلوا نفلاً على هذه السجادة أم نتيح المجال لمن لم يصل الفرض بعد أن يصلي عليها، يعني إذا كان الحرم المكي يتسع لمليون إنسان وأن العالم الإسلامي يزيد عن ألف مليون، وأن هناك ترتيبات أن يحج من كل مليون ألف حاج، وألا يسمح بالحاج أن يحج إلا بعد خمس سنوات، هذا الإجراء منطقي واتفقت عليه الأمة الإسلامية وبأجمعها في بعض المؤتمرات، فلذلك أن يتاح للذي لم يحج أن يحج بوضع مقبول ومعقول، أما إذا بلغ الزحام درجة الحد غير المقبول هذا الحج ربما فسد، بمعني أن الإنسان حينما ينسحب من شدة الازدحام أين إقباله على الله عز وجل، وأين التفاته إلى الله، فلذلك إذا كان هناك ترتيبات تقضي ألا يحج الإنسان إلا كل خمسة أعوام فهذه الترتيبات يؤكدها هذا الحديث القدسي:
إذا أصححت لعبدي جسمه وأوسعت عليه في المعيشة فأتت عليه خمسة أعوام لم يفد إليّ لمحروم
يعني هذا الذي أريد أن أؤكده أن الإنسان إذا تفضل الله عليه بحج مبرور ليفسح المجال لإنسان لم يحج بعد كي يحج في وضع مقبول ومعقول.
والحمد الله رب العالمين
منقول عن:
خطبه الجمعة – الخطبة 0219 : خ1 – أصل فريضة الحج ، خ2 – التمر.
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1988-06-24 | المصدر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق