الأربعاء، 20 يوليو 2016

الساعة البيولوجية


بسم الله الرحمن الرحيم
الساعة البيولوجية في الإنسان :
الإنسان يدرك الزمن والوقت من خلال إدراكه، ولكن كيف تدرك أجهزة الإنسان وأعراضه الزمن، وهذه الأمور مرتبطة بوظائفها؟
لعل الإجابة عن هذا السؤال يضطرنا إلى الحديث عما يسمى الساعة البيولوجية في الإنسان، شيء محير، وشيء بالغ الدقة، لكن قبل الحديث عن هذه الساعة فهل في مخلوقات أخرى مثل هذه الساعة؟ اكتشف أحد العلماء الفرنسيين أن في مقدور بعض النباتات حساب الزمن، حيث إن بعض أوراق مجموعة من النباتات تؤدي حركات معينة في وقت محدد من اليوم، إذاً هذا النبات عنده ما يسميه العلماء ساعة بيولوجية، تحسب له الزمن إذ أن هذا النبات عنده ما يسميه العلماء ساعة بيولوجية تحسب له الزمن.
imgثم إن العلماء اكتشفوا أيضاً أن هناك حيوانات تشبه النباتات في تحديد الزمن، حيوانات تعرف بدقّة بالغة مرور الزمن، فتتجه إلى مكان سباتها في الشتاء، لو تأخرت أو بكرت قليلاًَ لماتت، إنه حساب في غاية الدقة، تأوي بعض الحيوانات إلى أوكارها لترقد طوال فصل الشتاء، ولولا أنها تعرف كيف يمر الزمن لما أمكنها ذلك، قال تعالى والآية دقيقة جداً:
(قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)
[سورة طه: 49-50]
شيء دقيق جداً أن الله هيأ للمخلوق كل أجهزته، لكن من أودع فيه هذه الغرائز؟
(رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ)
زوّده بكل ما يحتاجه من أجهزة، ثم هداه إلى مصالحه،
(ثُمَّ هَدَى)

imgأما عند الإنسان فإنه بجوار غدته النخامية مجموعة خلايا لها خاصية عجيبة، إنها تستشعر الضوء الذي يسقط على قاع الشبكية في أثناء النهار، إذا استشعرت هذا الضوء معنى ذلك أن الوقت نهار، فإذا غابت هذه الأشعة التي تسقط على قاع الشبكية معنى ذلك أن الوقت ليل.
الإنسان بإدراكه الواعي يعلم ما إذا كان في الليل أو في النهار، لكن هناك أجهزة كثيرة جداً في الجسم ينبغي أن تكون في النهار على وضعٍ، وفي الليل على وضعٍ آخر، ينبغي أن يزداد نشاطها في النهار، وأن يقلّ نشاطها في الليل، وهناك أجهزة أخرى بالعكس ينبغي أن يزداد نشاطها في الليل ويقلّ في النهار، فمن الذي ينبئ هذه الأجهزة التي ليست عاقلة أن الوقت نهار أو أن الوقت ليل؟ هذا هو الموضوع بالذات، طبعاً هذه الأجهزة تستشعر أن الوقت نهار فلها خطة ثابتة تفعلها في النهار، ثم إنها تستشعر أن الوقت ليل لها خطة ثابتة تفعلها في الليل.
مثلاً: في النهار يزداد استهلاك الجسم للطاقة، فترتفع درجة حرارته نصف درجة عن المعدل الوسطي، وتنخفض في الليل نصف درجة عن هذا المعدل الوسطي، من يشعر الخلايا وخلايا الاستقلاب بالذات أن الوقت وقت نهار؟ هذه الخلايا التي إلى جوار الغدة النخامية تستشعر من خلال اقتباسها بقاع العين أن الوقت وقت نهار.
إذاً الساعة البيولوجية مكانها إلى جوار الغدة النخامية، مرتبطة بقاعِ العين، فإذا جاء الضوء في النهار على قاع العين أشعرَ هذا المركز البيولوجي الساعة البيولوجية أن الوقت وقت نهار، فإذا غاب هذا الضوء من قاع الشبكية أخبرها أن الوقت وقت ليل، إذاً لا بد من خطة ثانية.
الغدة النخامية تؤمّن التكامل بين وظائف الأجهزة الداخلية :

imgالآن مع بعض التفاصيل، إن سقوط الضوء فوق الشبكية ينتقل بوساطة سيالات عصبية عبر ألياف العصب البصري إلى الغدة النخامية، وهي كما قلنا في حلقات سابقة ملكة الغدد، ووزنها نصف غرام، هذه الغدة النخامية تؤمّن التكامل والتكيّف بين وظائف الأجهزة الداخلية، هي مسيطرة، هي ملكة الغدد، تؤمّن أيضاً ضبط النشاط العام للجسم.
الآن أول غدة تتعلق بهذا المركز الذي هو الساعة البيولوجية الغدة الدرقية، والغدة الدرقية فيها استقلاب، معنى استقلاب: تحول الغذاء إلى طاقة، هذا الغذاء يتحول إلى طاقة عالية في النهار، وطاقة متدنية في الليل، أنت في النهار تتحرك، تعمل، تذهب إلى عملك، تحل مشكلات، قال تعالى:
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا*وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا)
[سورة النبأ: 10-11]
فالغدة الدرقية التي أوكل إليها أمر الاستقلاب، أي تحوِّل الغذاء إلى طاقة، هذه الغدة تعمل بنشاط بالغ في النهار، وبنشاط متدنٍّ في الليل، بأمر من هذا المركز البيولوجي الذي هو الساعة البيولوجية.
اختلاف نتاج الإنسان بين الليل و النهار :
نتاج الإنسان في الليل يقلّ عن النهار، أنا أنصح أن يكون العمل في النهار، لكن هناك حالات استثنائية كالمطارات، ومراكز الحدود، وبعض المعامل، إذاً الطاقة التي يستطيع الإنسان بذلها في النهار ليست كالطاقة التي يستطيع بذلها في الليل، إذاً حينما نكلف إنسانًا أن يعمل في وقت السكن والنوم فلا شك أن هذا العمل لن يكون في فعاليةِ عملِ النهار.
كما أن الجسم ما ينتفع به من النوم في الليل لا ينتفع به بالنوم في النهار، بل إن في بعض الآثار: ” إن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار، ولله عمل في النهار لا يقبله في الليل”.
في النهار تزداد ضربات القلب من عشر إلى عشرين ضربة عنها في الليل، يزداد إدرار البول من ضعفين إلى أربعة أضعاف في النهار عنه في الليل، بل إن المثانة كأنها في الليل تأخذ إجازة، من أجل أن يرقد صاحبها براحة من دون إزعاج، دخول وخروج إلى الحمام، ألا ترى معي أن لهذا الإنسان تصميماً رائعاً؟ أن هذا الخالق العظيم رتب أجهزة الإنسان وعملها وتصميمها والتنسيق بينها بشكل معجز؟
اختلاف الساعة البيولوجية عن الساعة العادية :
 img
الساعة البيولوجية ساعة ليست كساعاتنا، ساعاتنا ساعات ميكانيكية أو إلكترونية، فيها عجلات ومسننات ونوابض، الإلكترونية فيها صفحة من مادة معينة، فيها أوامر، لكن ساعتنا ليست من هذا النوع، ساعة بيولوجية تقوم بها الغدد الصماء والمراكز العصبية والتواصل الهرموني والعصبي.
مهمة الساعة البيولوجية :
شيء آخر، في النهار يرتفع النشاط الكهربائي للدماغ، وفي الليل يضعف هذا النشاط، والإنسان في النهار يمكن أن يؤدي عملاً فكرياً رائعاً، لكنه في الليل لا يستطيع ذلك، طبعاً في النهار أقصد به بعد طلوع الشمس، هذه ساعة الفجر المباركة.
لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا
[متفق عليه عن أبي هريرة]
كنت البارحة في حفل تكريم عالم من علماء دمشق، فقام هذا العالم وألقى كلمة، وأشار فيها إلى أن بركة صلاة الفجر وما بعد الفجر هي وراء هذه المؤلفات الضخمة التي أنتجها في حياته، هو يستيقظ عند صلاة الفجر، ولا ينام بعدها إطلاقاً، هذا وقت مبارك، كما قال عليه الصلاة والسلام:
اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا…
[الترمذي عَنْ صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ]
فيبدو أن الدماغ في النهار في أعلى مستوى من النشاط، هذا النشاط يضعف أيضاً في الليل، الآن في النهار تزداد درجة لزوجة الدم عنها في الليل، طبعاً إذا كان الدم لزجاً كان أقرب إلى الصون من أن يسيح من جرح بسيط، فالإنسان حينما يغضب وحينما يخاف ترتفع لزوجة دمه، في الليل يتميع الدم، وهذا أيضاً بسبب الخالق العليم الحكيم الذي جعل هذا الدم صونه في النهار أن يكون لزجاً، وصونه في الليل أن يكون متميعاً، يزداد عدد كريات الدم البيضاء كسلاح دفاعي في الإنسان في النهار عنها في الليل، فالكريات البيضاء هي جنود خاضعة لنظام دقيق من أجل أن تؤدي وظيفة الدفاع عن الجسم، في النهار هناك حركة، ومصافحة، وتناول طعام، وعمل في أماكن قد تكون فيها جراثيم، فجهاز الدفاع في الإنسان يكون مستنفراً، وفي جاهزية عالية في النهار عنه في الليل.
قضية تبدل وظائف الأعضاء في الغدد الصماء في النهار عنها في الليل هذا من مهمة الساعة البيولوجية.
التبدل في وظيفة الإنسان :

imgالليل لباس، الليل وقت الإنسان ليلتقي بزوجته فرضاً، لذلك معدّلات النمو في الليل أعلى منها في النهار، الإنسان ينام وهرمونات النمو تكون أشد فاعلية في الليل عنها في النهار، حتى الهرمون الجنسي يكون في الليل في أعلى مستوى من مستوياته عنه في النهار، في الليل يقلّ استهلاك السكر ثلاثين في المئة عما هو عنه في النهار، لأن السكر هو طاقة، تحرق المواد السكرية فتشكل طاقة، الإنسان في النهار يحتاج إلى طاقة، لكن في الليل لا يحتاج إلى هذه الطاقة، إذاً يزداد استهلاك السكر في النهار ثلاثين في المئة عنه في الليل، هذا معنى قوله تعالى:
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِين)
[سورة التين: 4-5]
لا زلنا في الساعة البيولوجية، المعدة أيضاً تكون قدرتها الإفرازية وقدرتها على هضم الطعام قليلة في الليل، لذلك هذه العادات التي ألفها الناس أن يتناولوا عشاء دسماً هي عادة سيئة جداً، بل إن بعض الأبحاث العلمية تتجه إلى أن يأكل الإنسان نصف الكمية الغذائية اليومية صباحاً، و خمسةً و ثلاثين بالمئة منها ظهراً، وخمسة عشر بالمئة منها ليلاً، أما ما يفعله الناس إذْ يأكلون أكبر كمية من الطعام في الليل، فالمعدة قدرتها على الهضم تضعف في الليل عنها في النهار.
الأمة التي يبدأ عملها قبيل الظهر لا تنتج شيئاً :
الإنسان حينما يستيقظ تتراكم في دمه مادة تؤدي إلى تسارع النبض وارتفاع ضغط الدم، وهذا يؤدي إلى نشاط الجسم، وهذا ملموس عند بعض الناس، أن ذروة العمل في النهار، وأن المستوى الأدنى هو في الليل، كما قلت قبل قليل: النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا…
[الترمذي عَنْ صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ]
أنا زرت أمريكا، شيء لا يصدق، الطرقات في الساعة الخامسة صباحاً مزدحمة أشد الازدحام، يذهبون إلى أعمالهم في وقت مبكر جداً، وأنا أقول: إن الأمة التي يبدأ عملها قبيل الظهر هي أمة لا تنتج شيئاً، هذا الوقت المهم جداً الذي فيه ذروة النشاط هو وقت الصباح.
هذه الساعة البيولوجية تشعر الأجهزة والأعضاء والنسج والخلايا والغدد أن الوقت وقت نهار.
كخلاصة لهذا البحث العلمي الساعة البيولوجية تشعر الأجهزة والأعضاء والنسج والخلايا والغدد أن الوقت وقت نهار، فافعلي كذا وكذا، وامتنعي عن كذا وكذا، وأن الوقت وقت ليل، فافعلي كذا وكذا، وامتنعي عن فعل كذا وكذا، لذلك الإنسان الذي يعمل ليلاً ونهاراً بنوبات سريعة تضطرب الساعة البيولوجية في جسمه.
اضطراب الساعة البيولوجية :
هذا يؤدي إلى اضطراب الساعة البيولوجية، وأوضح شيء أن إنسانًا لو سافر إلى طرف الدنيا الآخر، من لبنان إلى أمريكا مثلاً، ما الذي يحصل هناك؟ هو مبرمج أن هذا الوقت هو ليل، هو في النهار هناك، إذاً لا ينام، أو ينام في النهار، ويقلق في الليل، بعد يومين أو ثلاثة، أنا سافرت عدة مرات، إلى أن أستقر في وضع متوازن أحتاج إلى يومين بعد وصولي إلى هناك، وعند عودتي إلى
بلدي أحتاج إلى يومين آخرين حتى تعمل هذه الساعة بشكل منتظم، أما هؤلاء الذين يسافرون كل يوم إلى أماكن بعيدة فهؤلاء تضطرب عندهم هذه الساعة البيولوجية، على كلٍّ يقول الله عز وجل:
p class=”qur1″>(صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)
[سورة النمل: 88]
و يقول أيضاً:
(يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ* فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ)
[سورة الانفطار: 6-8]
والحمد الله رب العالمين
منقول عن:
ندوات إذاعية – إذاعة دار الفتوى – الإعجاز العلمي – الحلقة 17 – 30 : الساعة البيولوجية.
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2003-11-11 | المصدر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق