الثلاثاء، 2 أغسطس 2016

القاعدة الإدارية




بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الإخوة الكرام، لا زلنا في بناء الدولية الإسلامية في المدينة، والحديث اليوم عن تأسيس القاعدة الإدارية وهو آخر موضوع في مثل هذه الموضوعات.
أيها الإخوة كانت بداية بناء المجتمع المدني بإقامة عهد المدينة، والذي نص على أن أهل يثرب أمة واحدة، سلمهم واحد، وحربهم واحدة، وهذا مِن فِعل النبي عليه الصلاة والسلام، فكأنه أول من رسخ مفهوم المواطنة أو التعايش، والعالَم اليوم في أمسّ الحاجة لمفهوم المواطنة والتعايش حقناً للدماء.
أُسس القاعدة الإدارية في الإسلام:
1. التشريع من عند الله وحده، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق:
حينما يشرّع الإنسان فإنّه يشرّع بنظر قاصر، يشرّع من زاوية واحدة، ولمصلحته، فيأتي تشريعه ناقصاً، فإذا حابى نفسه في التشريع، وحرم غيره نشأت الفتن، ولكن من أولى الخصائص المنهج الإلهي أن المشرّع ليس بشراً، هو خالق البشر، هو خالق الجميع، لا يحابي أحداً، ولا يحرم أحداً، ولا يعطي أحداً ما ليس له.
لذلك النفوس جميعاً تخضع لتشريع سماوي، ولا تخضع لتشريع من بشر عنده قصر نظر، أو عنده رؤية محددة، أو عنده أهواء ومصالح يريد أن يحققها على حساب المجموع العام.
هذا مبدأ من مبادئ الإدارة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
[أحمد عن علي]
سيدنا الصديق رضي الله عنه في أول خطاب خطبه قال فيه:
أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم
في مجتمع المسلمين أمر الله هو النافذ، تشريع الله هو المعتمد، الأمة الإسلامية تشريعها القرآن، وتفاصيل تشريعها سنة النبي العدنان، هذا الذي قامت عليه القاعدة الإدارية.
طاعة الله ورسوله، والالتزام بكتاب الله، وسنة رسوله، هذه قاعدة أولى.
2. الشورى بين المسلمين:
القاعدة الثانية في النواحي الإدارية التي أرسى دعائمها النبي عليه الصلاة والسلام هي الشورى فيما بين المسلمين.
قال الله تعالى في القرآن الكريم:
(وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)
[سورة الشورى الآية: 38]
أبلغ من ذلك: أن هذا النبي الكريم، وهو الإنسان الأول سيد الأنبياء، وسيد الرسل، وسيد ولد آدم، أمره الله أن يشاور أصحابه،
قال الله تعالى في القرآن الكريم:
(وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)
[سورة آل عمران الآية: 159]
فالمشاورة منهج إسلامي تقوم عليه الدولة الإسلامية.
بل إن النبي عليه الصلاة والسلام شاور زوجته أم سلمة في صلح الحديبية، وأخذ بمشورتها، ونجحت مشورتها، الشورى مبدأ.
أنا أقول لمن تولى أمر مؤسسة أو مستشفى، أو جامعة: اسأل مَن حولك، خذ برأيهم، من أنت أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمره الله أن يشاور أصحابه؟.
الآن ومضة تؤكد هذه الحقيقة:
لحكمة بالغةٍ أرادها الله عز وجل حجب الله عن نبيه الكريم الموقع المناسب يوم بدر وحياً وإلهاماً واجتهاداً، فلم يأته الوحي بالموقع، ولم يحسن اجتهاد الموقع، ولم يلهم صواب الموقع، لحكمة بالغة، فجاء صحابي جليل قمة في الأدب، فسأل النبي على استحياء، قال: يا رسول الله، هذا الموقع وحي أوحاه الله إليك، فإذا كان وحيا فلا نتكلم كلمة ولا حرفا، أم هو الرأي أم المشورة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: بل هو الرأي والمشورة، أي اجتهاد، فقال هذا الصحابي الجليل: والله يا رسول الله ليس هذا بموقع، بكل تواضع، وبكل رحابة صدر، وبكل نفس رضية، وبكل تقدير، فقال له: جزاك الله خيراً، أين الموقع المناسب؟ فدله عليه، أمر أصحابه أن يتحولوا إليه، هذه هي الشورى.
لأن فضيلة الرجوع إلى الحق لا يمكن أن تظهر من النبي، لماذا؟ لأنه معصوم لا يخطئ، فالله عز وجل حجب عنه الموقع المناسب، حجبه وحياً، وحجبه إلهاماً، وحجبه اجتهاداً، كي يشرع لنا فضيلة الرجوع إلى الحق.
النبي لا ينسى لقول الله تعالى في القرآن الكريم:
(سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى)
[سورة الأعلى]
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ
[متفق عليه]
سأل أصحابه عن حقيقة الأمر، وهذا اسمه تقصي الحقائق، فإذا بهم يؤكدون أنه صلى ركعتين، وقد ورد في بعض الكتب أنه قال: إنما نُسيت كي أسن، النبي لا ينسى، إذاً: كيف يشرع لنا سجود السهو، مستحيل، إلا أن ينسيه الله عز وجل،
لذلك قال تعالى:
(سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى)
(إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)
[سورة الأعلى]
لحكمة بالغة.
إذاً: مجتمع المؤمنين أمرهم شورى بينهم، مجتمع المؤمنين يتشاورون، يتناصحون، يتبادلون الخبرات، يؤثر بعضهم بعضاً، يتطاوعون، ولا يتنافسون، هذه من خصائص مجتمع المؤمنين.
من خصائص مجتمع المسلم: أن المؤمنين يبذلون كل ما يملكون من نفس ومال ومتاع في سبيل دين الله، والدفاع عن مقدساته، وحرماته.
إخواننا الكرام، المشكلة أن انتماء الناس لا إلى مجموعهم، ولا إلى دينهم، ولكن انتماء الناس انتماء شخصي،
فبيت الشعر الذي دخل صاحبُه السجن في عهد عمر هو شعار كل إنسان اليوم، ألاَ و هو:
دَعِ المَكارِمَ لا تَرحَل لِبُغيَتِهــا***وَاِقعُد فَإِنَّكَ أَنتَ الطاعِمُ الكاسي
الآن هو شعار أيّ إنسان، أهم شيء دخلٌ وفير، بيت، زوجة، نزهات، وعلى الدنيا السلام، تجد البلد مسلما، وتقام فيه الحفلات في المطاعم، والرقص، وحول البلد قتل وإزهاق أرواح، واغتصاب، وكأن المسلمين لا ينتمون إلى مجموع المؤمنين، بل ينتمون إلى ذواتهم، وإلى حظوظهم، وهذا وصمة عار في حق الأمة الإسلامية،
بينما يقول عليه الصلاة والسلام:
لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحبُّ لِنَفْسِهِ
[متفق عليه]
وللحديث زيادة:
ويكره له ما يكره لنفسه
[رواه سَعِيدِ بنِ أَبي سَعِيدٍ عن أَبِيهِ عن أَبي هُرَيْرَةَ]
حينما تحمل همّ ليس المسلمين فقط بل هم الإنسان تكون مسلماً، وحينما تحمل همّ المؤمنين تكون مؤمناً، وحينما تبذل كلما تملك من أجل تخفيف الأذى عنهم، أو نصرتهم فهذه علامة الإيمان.
هناك كلمات عند العامة قذرة، لا دخل لنا، فخار يكسر بعضه، سلامتك يا راسي، كل من أخذ أمي فهو عمي، هذه كلمات الكفر والبعد عن الله عز وجل.
3. المشاركة الجادة والمستمرة في بناء الحياة الإسلامية في كل المجالات:
ومن قواعد القاعدة الإدارية المشاركة الجادة والمستمرة في بناء الحياة الإسلامية الجديدة بكل المجالات، وعلامة الإيمان أنك تشارك غيرَك، والمسلمون في أول عهدهم كانوا كتلة واحدة، وقلباً واحداً.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى
[أخرجه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير، واللفظ لمسلم]
4. مشاركة المرأة في بناء المدينة الإسلامية:
بقي شيء مهم في الحياة الإدارية نحن مقصرون فيه، وهو: مشاركة المرأة في بناء هذه المدينة الإسلامية.
إنّ المرأة لها دور كبير، وفي عصور الانحطاط هُمِّش دورها، والمرأة لا تقلّ أهميةً عن الرجل، بل هي مساوية له في التكليف، وفي التشريف، وفي المسؤولية، ومكلفة بأركان الإسلام، كما هو مكلف بأركان الإسلام، ومكلفة بأركان الإيمان، كما هو مكلف بأركان الإيمان، ومشرفة بطاعة الله، كما هو مشرف بطاعة الله، ومسؤولة عما استرعاها الله، كما هو مسؤول عما استرعاه الله، المرأة مساوية مساواة تامة في التكليف، وفي التشريف، وفي المسؤولية.
لذلك حينما يعلِّم الإنسان بناته يرتقي بالفتيات إلى مستوى هموم المسلمين، أما إذا تركت الفتاة من دون تعليم انشغلت باهتمامات محدودة تبعدها عن قضايا أمتها الكبرى.
فلذلك مشاركة المرأة في بناء هذه الأمة الإسلامية مشاركة حتمية تؤكد أن المرأة نصف المجتمع، وأن المجتمع يقوم على شقين النساء والرجال.
5. احترام حقوق الإنسان والحرص على سلامته:
شيء آخر يقوم على إدارة المجتمع كقاعدة: إنه احترام الإنسان، والحرص على سلامته، والتمتع بكل حقوقه التي منحها الله له غير منقوصة، وبالتالي بذل كل الجهود لخدمة وإيصال كلمة الحق إليه، وله حرية الاعتقاد
لقوله تعالى في القرآن الكريم:
(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)
[سورة البقرة الآية: 256]
إنّ الإنسان مكرم،
قال سيدنا عمر:
متى استعبدتم الناس ولقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟
فالإنسان كل شيء من أجله، النظم من أجله، حتى الثورات في تاريخ البشرية من أجله، حتى العلم من أجله، والطب من أجله.
لذلك حينما يكون الإنسان ضحية في مجتمع ما فهذه هي الطامة الكبرى، لأن الإنسان هو الضحية.
مثلاً: في بعض البلاد سباقات الجمال، يأتون بطفل صغير، لأن وزنه خفيف، يركب هذا الجمل، وتخريب عموده الفقري حتمي، لأن عظمه رقيق وطري، يركب هذا الطفل، وفي الأعم الأغلب يسقط فيموت، أو يصاب بأمراض مزمنة في عموده الفقري، مَن هو مسخر للآخر؟ الجمل للإنسان؟ أم الإنسان للجمل؟ هذا السباق خلاف منهج الله عز وجل، لأن الله سبحانه وتعالى سخر للإنسان كل شيء:
قال الله تعالى في القرآن الكريم:
(وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ)
[سورة الجاثية الآية: 13]
فلذلك احترام الإنسان واجب، الإنسان من حقه أن يحيى، من حقه أن يعتقد ما يشاء، من حقه أن يكون حراً، وهذه هي حقوق الإنسان، والإسلام أولُ مَن نادى بها.
حينما جاء رجل قبطيٌّ إلى سيدنا عمر يشكو له ظلم ابن أمير مصر، فاقتص منه،
وقال له سيدنا عمر:
اضرب ابن الأكرمين
وقال بعدها قولته الشهيرة:
متى استعبدتم الناس ولقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟
الإسلام يحترم الإنسان.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ
[أبو داود]
النبي عليه الصلاة والسلام وقف لجنازة، فقيل: هذه جنازة يهودي، فقال:
أليس إنساناً؟
كان يحترم الإنسان، كائناً من كان، وأية حضارة لا تقوم على احترام الإنسان فليست حضارة.
لذلك أنا أقول بملء فمي: هناك بلاد يظنها الناس متحضرة، وهي متوحشة، لأنها تقيم فروقاً عرقية بين شعب أبيض وشعب آخر أسود .
مرة قال بعض أصحاب النبي كلمة سيئة مخاطبا بها رجلا آخر، فأنكر عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ
[متفق عليه]
فأصرّ قائل هذه الكلمة أن يضع رأسه على الأرض ليدوس ذلك الرجل على رأسه، تكفيراً لذنبه الذي ارتكبه.
لذلك الإنسان محترم في الإسلام، والمرأة محترمة في الإسلام، واحترام الإنسان والحرص على سلامته، والتمتع بكل حقوقه التي منحها الله له غير منقوصة، وبالتالي بذل كل الجهود لخدمته، وإيصال كلمة الحق إليه، يؤكد هذا قوله تعالى:
(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)
[سورة التوبة الآية: 6]
وله حرية الاعتقاد، لقوله تعالى:
(لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)
أيها الإخوة الكرام، هذه مبادئ الإدارة في مجتمع المسلمين، وينبغي أن نأخذ بها جميعاً على مستوى البيت، على مستوى المدرسة، على مستوى المؤسسة، على مستوى المعمل، على مستوى الجامعة، يجب أن يكون الناس سواسية كأسنان المشط، والإنسان يجب أن يكون محترماً، لأنه هو المعني بكل ثورة في الأرض، وبكل منهج إلهي، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
(إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)
[سورة البقرة الآية: 30]
ويقول أيضاً:
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)
[سورة الذاريات]
ويقول أيضاً:
(وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ)
[سورة الجاثية الآية: 13]
ويقول أيضاً:
(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)
[سورة الإسراء]
أضرب لكم مثلاً: سيدنا عمر في عهده جاءه ملَك الغساسنة مسلماً، إنه جبلة بن الأيهم، أعلن إسلامه، ورحب به عمر أشد الترحيب، ثم توجه إلى الكعبة ليطوف حولها بعد أن أسلم، في أثناء الطواف داس بدوي من فزارة طرف ردائه، فانخلع رداءه عن كتفه، فالتفت جبلة إلى هذا البدوي من فزارة وضربه ضربة هشمت أنفه، فما كان من هذا البدوي إلى أن توجه إلى عمر ليشتكي إليه، سيدنا عمر استدعى جبلة، وقف جبلة أمام عمر، وإلى جانبه هذا البدوي من فزارة، وجرى حوار، بعض الشعراء المعاصرين صاغه شعراً.
قال سيدنا عمر:أصحيح ما ادعى هذا الفزاري الجريح؟
قال جبلة: لست ممن ينكر شيا، أنا أدبت الفتى أدركت حقي بيديا.
فقال عمر: أرضِ الفتى لا بد من إرضائه ما زال ظفرك عالقاً بدمائه.أو يهشمن الآن أنفك، وتنال ما فعلته كفك.
قال جبلة: كيف ذاك يا أمير؟ هو سوقة وأنا عرش وتاج.
أي من دهماء الناس ومن عامتهم.كيف ترضى أن يخر النجم أرضا.
فقال عمر: نزوات الجاهلية، ورياح العنجهية قد دفناها.أقمنا فوقها صرحاً جديدا، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيدا.
فقال جبلة: كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى وأعز.
أنا مرتد إذا أكرهتني.
فقال عمر: عالَم نبنيه، كل صدع فيه يداوى، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى.
مراحل المجتمع البشري:
لذلك مرت المجتمعات البشرية بمراحل بثلاث،
عصر المبادئ:
وهذا أرقى عصر، وهذه القصة تشف عن عصر المبادئ،
عصر الأشخاص:
ومر المجتمع البشري بعصور متلاحقة تسمى عصور الأشخاص، الشخص هو الأول، كل الناس له، يعيشون له، يمجدونه، هذا العصر أقلّ رتبة من عصر المبادئ،
عصر الأشياء:
ولكن الطامة الكبرى أن نصل إلى عصر الأشياء:
(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)
[سورة الفرقان الآية: 43]
أسوأ عصر يعيشه البشر هو عصر الأشياء، والدليل الآية الكريمة:
(قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ)
هذه الأشخاص.
(وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا)
هذه الأشياء.
(أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)
[سورة التوبة]
فالبطولة أن نعيش عصر المبادئ، فإذا زلّت القدم انتقلنا إلى عصر الأشخاص، فإذا انهارت القيم انتقلنا إلى عصر الأشياء، وفي عصر الأشياء قيمة المرء متاعُه فقط، قد يكون تاجر مخدرات، لكن بيته فخم جداً، مركبته غالية جداً، يعظمه الناس، قد يبني ثروته على سحق البشر، لكن لأن بيته فخم، مركبته من نوع غالٍ جداً يعظمه الناس، نحن في عصر الأشياء، أما عصر المبادئ فقيمة المرء ما يحسنه، إنسان له دعوة، له مبدأ، له عمل صالح، هذا عصر اسمه عصر المبادئ.
الإسلام والأمة والأسرة والفرد:
أيها الإخوة، عظمة هذا الدين أنه قابل للتطبيق على مستوى جماعي كبير، على مستوى أمة، وقابل للتطبيق على مستوى أسرة، فإن إن لم يتح لك أن تطبق على مستوى أمة فلا أقلَّ مِن أن تطبقه على مستوى أسرة، فكل إنسان يحيى حياة نابعة من منهج الله وسنة رسوله.
فلذلك أنت مسؤول عن بيتك الذي هو مملكتك، وعن عملك الذي أيضاً مملكتك.
(إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)
[سورة الرعد الآية: 11]
أقم الإسلام في نفسك، وفي بيتك، وفي عملك، وتكون قد أديت الذي عليك، عندئذٍ اسأل الله الذي هو لك .
خاتمة:
أيها الإخوة الكرام، الإنسان في هذه الحياة الدنيا له رسالة، العبادة سر وجودنا ، لذلك
قال تعالى:
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)
والعبادة طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية تفضي إلى سعادة أبدية.
نحن في بهذا نكون قد أنهينا القواعد المتعددة التي جعلها النبي عليه الصلاة والسلام أركان مجتمعه ودولته، فمن البناء الفردي إلى المساواة بين الناس وعدم التفريق، والتمييز بينهم أفراداً وجماعات، إلى إصلاح العلاقات بين الأفراد، وإزالة آثار ما سلف، إلى أخلاق الحياة اليومية والصحبة، إلى جمع الشمل، إلى البناء الاجتماعي المؤاخاة، والمؤاخاة في العهد المكي، والمؤاخاة في المدينة، إلى أهداف المؤاخاة، إلى صور المؤاخاة، إلى نص عهد المدينة الرائع، إلى تأسيس القاعدة الصحية والعمرانية، إلى البيئة الطبيعية في المدينة، إلى العمران النبوي في المدينة، إلى خطط المدينة، إلى تأسيس القاعدة التعليمية والتربوية على المستوى الفردي والجماعي، إلى التدوين والكتابة، وهي بداية الطريق إلى تأسيس القاعدة الاقتصادية.
والحمد الله رب العالمين
منقول عن: السيرة – فقه السيرة النبوية – الدرس (55-57) : تأسيس القاعدة الإدارية والأمنية والدعوية
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2007-06-09 | المصدر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق